لعبة العنبر والشعور بالخطر
المسك:
- لم أكن أتخوَّف من ”لعبة العنبر“، أو أختها ”لعبة نصف العنبر“، وهما لعبة واحدة ولكن هناك بعض الفروق في قوانين هذه وقوانين تلك، والدليل على عدم تخوّفي من ممارسة هذه اللعبة أنني كنت ألعبها مع أقراني في أزقة الديرة، والبراحات القريبة منها، لا سيما إذا كانت هناك أرض فرغت للتوّ لبناء منزل جديد وظلت هذه الأرض فترة من الزمن دون أن يتم البناء فيها، حيث نستغل هذه الفترة الزمنية التي قد تكون شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين وهكذا فنلعب في هذه الأرض هذه اللعبة وألعاب أخرى مثل لعبة ”احترقت“، ولعبة ”الجلينة“ وغيرها من الألعاب، وهذه اللعبة الجميلة ”العنبر“ لا أعلم بالضبط من أين جاءت لنا وأحببناها ومارسناها بعد أن عرفناها وأتقنَّاها ممن هم قبلنا؛ ومن المؤكّد أن الكثير ممن هم في سنّي قد لعبوا هذه اللعبة في صغرهم، وهم يتذكرونها جيداً، ولا زلت أتذكر الكثير من ”المزقات“ المؤلمة التي أُصِبتُ بها من لاعِبي الخصم والتي تَبقى آثارها لآخر اليوم أو لأيام قليلة بعدها، وربما اضطررنا لوضع المراهم الخاصة في مواضع تلك المزقات على جوانبنا وعلى ظهورنا، أما عن كيفية هذه اللعبة وطريقة لعبها فسأتركها لأحد الأصدقاء من حيّ الديرة.
يذكر لي الحاج «أبو زينب» محمود شاخور أن لديه بعض الذكريات عن هذه اللعبة حيث قال: ”بحكم السنّ ربما أكون قد نسيت الكثير من الذكريات والمواقف والحكايات القديمة، وبخصوص هذه اللعبة أخاف أن تكون بعض المعلومات الدقيقة حولها قد فقدتها - ربما أُصبت بالزهايمر بخصوص هذه المعلومات الدقيقة - ولكنني سأحاول تذكر ما أمكنني تذكره، وكرة العنبر هي تلك الكرة الصغيرة الصفراء عادة، وهي هي نفس كرة التنس الأرضي، وكانت تباع عندنا في الكثير من المحلات التي تبيع الملابس الرياضية والأحذية، كما كانت بعض البقالات تبيعها أيضاً، وهذه الكرة هي التي كادت أن تتسبب في كسر ظهورنا من كثرة“ التمزيق ”، و“ المزقة" هي الضربة القوية التي قد تصيب أحد اللاعبين، حيث يتطلب من الفريق الخصم أن يصيب بالكرة أي من اللاعبين في الطرف المقابل لإخراجه من اللعبة.
هناك فريقان في هذه اللعبة، والفريق الواحد يتكون من 3 لاعبين إلى 7 لاعبين وربما يزيد العدد قليلاً أو ينقص قليلاً، ويتم وضع مجموعة من البلاطات بشكل هرمي من الكبيرة في الأسفل إلى الأصغر منها وهكذا حتى أصغر قطعة بلاطة تكون في الأعلى، وقد لا تكون بشكل هرمي إذا كان تكسير هذه البلاطات بشكل شبه متشابه في الحجم، وفي بعض الأحيان يتم وضع 7 بلاطات وبعض الأحيان يصل عدد البلاطات إلى 12 بلاطة، على أن يتم رمي هذه البلاطات من مسافة 3 أمتار إلى 7 أمتار أحياناً، حتى تكون فرص الإطاحة بها من قبل الفريق الرامي كثيرة، حيث يبدأ أحد الفريقين بترشيح لاعب منهم للرمية الأولى، على أن يصيب صف البلاطات الواقفة أمام ناظريه، والفريق الذي يرمي جميع البلاطات هو الذي يهرب، والفريق الثاني هو الذي يلاحقهم، فبعضهم يكون قريباً في المسافة ولا يتعدى المنطقة التي يلعبون فيها، وبعضهم يذهب إلى مسافات كبيرة والذين يلاحقونهم يتعبون إلى أن يصيدونهم واحداً واحداً، وبالطبع فإن الفريق الثاني الذي هرب كل لاعبيه هو الذي يأتي ليقوم بتعديل البلاطات فوق بعضها البعض كاملة؛ بالشكل الهرمي الذي ذكرناه من الكبيرة أولاً في الأسفل حتى الصغيرة في الأعلى، فإذا قاموا بتعديل هذه البلاطات بالشكل الصحيح على بعضها البعض لا بد أن يصرخ بأعلى صوته ويقول كلمة:
- عنبر.
وإذا لم يقل هذه الكلمة بعد الانتهاء من تعديل البلاطات كاملة يكون خاسرًا، على أن ”يمزقه“ الخصم بالكرة مزقة قوية، أي يرمي عليه الكرة بحدّ قوته على أن يركّز عليه مباشرة لتصيبه الكرة، ولا يستطيع أن يقول كلمة «عنبر» إلا بعد صفّ كامل البلاطات حسب الترتيب الهرمي المطلوب، والذي يُصاب بمزقة الكرة يعتبر ميتاً ويخرج من اللعبة، ويبقى بقية اللاعبين في الفريق يمارسون اللعبة مع خصمهم، والذي يموت من اللعبة لا يعود للعبة إلا بعد أن يعود أحد لاعبيهم ويقوم بتعديل الحجر للعبة جديدة، وهكذا.
وبالطبع أنا لعبتها في حي الديرة عند دكّان التجارة لبيت شاخور، وهو دكّان مشهور، وقلّما لم يتعامل معه أهالي سيهات في شراء العديد من لوازمهم منه، وهذا الدّكان يقع جهة بيت الخطيب السيد مرتضى شبر، وقد لعبنا هنا، وأيضًا لعبناها عند «البيت العود» الذي كان يقرأ فيه السيد مرتضى نفسه، كما لعبناها عند جامع الإمام المهدي «عجل الله فرجه الشريف» بحكم وجود بيت عمي خليفة شاخور عند هذا الجامع - وقتئذٍ - وأتذكر أنه حدثت لي مأساة هناك وأنا ألعب العنبر مع أصدقائي وأولاد الحارة حيث أُصبت بـ «مزقة» قوية ولكن ليست بالكرة، بل بإحدى البلاطات التي هي جزء من اللعبة، حيث يجب صف تلك البلاطات على شكل هرمي، وقد غضب أحد لاعبي الخصم مني لأن فريقنا هو الذي فاز على فريقه؛ فما كان منه إلا أن أخذ بلاطة من تلك البلاطات ورماها عليّ بكل قوته فأصابني في قدمي اليمنى فتألمت كثيراً، وعلا صياحي من شدة الألم، وبقيت أربعة أيام لا أستطيع المشي مطلقاً، وكان ذلك في نهاية شهر رمضان ولم أستطع أن أعيّد مع العائلة ولا مع أصدقائي وأقراني، وازداد الألم في قدمي، فما كان من والدي إلا أن حملني بنفسه إلى عيادة الدكتور إقبال الباكستاني في العمارة التي تقع مقابل المخبز العصري بشارع السوق وقام هذا الدكتور بوضع المرهم المناسب مكان الجرح ثم لفّه ببعض القطن والشاش الطبي، ثم قام بإعطائي إبرة خاصة، وقبل أن يضربني بهذه الإبرة، قال:
- ”بِثمِ اللهْ“.
لأنه لا يستطيع لفظ حرف السين، وقد اشتُهر عنه ذلك، كما قد تناولت علبة من ال «عرانص»، و«قوطي طماط» - على ما أتذكر -، وربما كان يريد أن يؤثر عليّ نفسيَّاً بهذا التصرف حتى أتماثل للشفاء بسرعة، والحمد لله رب العالمين، صرت أتحسّن شيئاً فشيئاً وزال الألم.
وأتذكر أيضًا في أيام الصبا كان أفضل شخص يلعب هذه اللعبة في ديرتنا هو «علي عيسى الشويخات»، وهو من فريقنا.
الروائياتي:
- هذه لعبة جميلة، رغم ما بها من العنف، وقلما تجد لعبة ميدانية تُشتهر عند الشعوب، إلا ويكون العنف أحد عناصرها، كلعبة كرة القدم الأمريكية، ولعبة الهوكي، ولعبة المصارعة، ولعبة الملاكمة وغيرها من الألعاب، ولكنها تتميز بمهارات اللاعبين وقوتهم العضلية من جهة، ومن جهة أخرى ذكاء اللاعبين أنفسهم أثناء ممارستهم هذه الألعاب، وهذه الذكريات التي تطرقت لها مع صديقك أبي زينب، إضافة جميلة لهذه السيرة التي تثبتها هنا في هذه المقالات، وإني أغبطك أيها المسك على هذا التنوع في التِقاط أكبر قدر ممكن من الذكريات القديمة، الذي له علاقة مباشرة بالتاريخ المحلي لسيهات مسقط رأسك ومنشأ تكوينك الثقافي والفكري والأدبي.
وفي الآداب العالمية الإنسانية الكثير من النماذج حول هذا الموضوع، وهذه الأمثال وإن صيغت في روايات ومجموعات قصصية ومسرحيات إلا أنها كانت تمثل الواقع بدرجات متفاوتة من شعب إلى آخر، ومن قومية إلى قومية أخرى، ولا شك أن كبار السن يتذكرون الألعاب القديمة التي كانوا يلعبونها وهم في عمر الطفولة والصبا وربما في مقتبل شبابهم، قبل الانخراط في خضم الحياة والعمل وتكوين الأسرة.. وهكذا.. وهناك أمثلة لهذه الألعاب التقليدية التي كانت تُمارس في الماضي فقد تم تناولها الأدباء في العديد من كتاباتهم لأنها تُعبّر عن طبيعة المجتمعات وروحها الجماعية، ففي الأدب العربي نقرأ في رواية ”الحرافيش“ لنجيب محفوظ التي تناولت العديد من تفاصيل الحياة اليومية في الأحياء الشعبية، بما في ذلك ألعاب الأطفال مثل الكرة والصولجان والسيجة التي تعتمد على الحصى والرمل، وكذلك في قصة ”أيام الطفولة“ لطه حسين حيث أشار فيها إلى ألعاب بسيطة كان يمارسها الأطفال في القرى المصرية، مثل الحجلة والدحرجة باستخدام أدوات متاحة، أما في الأدب الشعبي فنقرأ الكثير من الحكايات الشعبية، مثل ”السيرة الهلالية“ التي تضمنت الإشارة إلى ألعاب الفروسية والمبارزة التي مارسها الأطفال والشباب كنوع من الإعداد للحياة.
أما في الأدب الآسيوي فنقرأ رواية ”كيم“ لروديارد كبلينغ؛ التي تصور الهند البريطانية، وتذكر ألعابًا مثل الكريكيت التي جلبها البريطانيون، وكذلك الألعاب التقليدية مثل الكايت فلاينغ «الطائرات الورقية»، وفي أدب اليابان التقليدي في المسرحيات مثل «نو وكابوكي» أحيانًا يُشار إلى ألعاب مثل: «إيجو «وهي لعبة الطاولة اليابانية القديمة، و«وكاغومي كاغومي» وهي لعبة جماعية غنائية للأطفال.
أما في الأدب الصيني التقليدي فنقرأ في رواية ”حلم الغرفة الحمراء“، حيث تبرز ألعاب النبلاء مثل لعبة الكرة الصينية التقليدية، والألعاب الموسيقية، أما في الأدب الأفريقي فنقرأ في رواية ”الأشياء تتداعى“ لتشينوا أتشيبي، التي تصف المجتمع القبلي النيجيري، حيث يشارك الأطفال في ألعاب مثل الرمي بالعصي وسباقات الجري، وكذلك في الأدب الشعبي الأفريقي يشير إلى ألعاب تقليدية مثل الضفادع والقفز الجماعي، وهي ألعاب كانت تُمارس في المراعي والساحات القبلية.
وكذلك في الأدب الأوروبي، حيث نقرأ في رواية ”جين إير“ لشارلوت برونتي، والتي أشارت إلى ألعاب الفتيات في الأرياف البريطانية مثل لعبة الحجلة والقفز بالحبال، كما نقرأ في أعمال «تشارلز ديكنز»؛ وهي غالبًا ما تضمنت إشارات إلى ألعاب الشوارع في لندن، مثل كرة القدم المصغرة؛ ولعبة البندول التي كان يلعبها الأولاد في الأزقة والباحات.
أما في الأدب الغربي «الأمريكي» فنقرأ في رواية ”مغامرات توم سوير“ لمارك توين التي أظهرت ألعابًا مثل: التزحلق على الخشب؛ واللعب بالطائرات الورقية؛ وصيد الحشرات، التي كانت جزءًا من حياة الأطفال الأمريكيين في القرن التاسع عشر، أما عن الأدب الشعبي الأمريكي فكثيرا ما أشار إلى ألعاب تقليدية مثل: الهوكي؛ والرماية بالقوس، التي استوحيت من ثقافة السكان الأصليين.
وعلى أي حال فإن الألعاب التقليدية غالبًا ما تكون مرآة لطبيعة الحياة وظروفها في كل مجتمع من المجتمعات، كما إن تناول الأدب هذه الألعاب يظهر اهتمامًا بتوثيق التجارب اليومية البسيطة وإبرازها كجزء من التراث الثقافي.