آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

الحلّاق محمد أمين الباكستاني والقفز على الزمن

عقيل المسكين *

المسك:

- في عمارة الحاج حسن الدبوس «أبي حسين» التي بجانب عمارتنا بشارع السوق، يوجد من ضمن دكاكينها دكان الحلاق محمد أمين الباكستاني - وأتذكر ذلك من أيام المرحلة الابتدائية «1394 هـ، 1399 هـ»، وأغلب رجال وفتية الديرة والأحياء القريبة يحلقون عنده، وأنا كنت من الذين يواظبون على تقصير شعر رؤوسهم وتعديله عند هذا الحلاق، وبالذات عندما تلاحظ أمي كِبر شعر رأسي فتقول لي:

- شعرك صار طويل لازم تروح تحلق حتى لا «يستحرق» فيك المدرس ولا المدير.

وكلمة يستحرق نقولها في عاميتنا ومعناها يغضب، ف استحرق بمعنى اغضب، ويستحرقون يغضبون، وهكذا، ولعلها اشتُقت من مادة «ح ر ق» من حُرقة الغضب لدى الشخص الغاضب، وكانت أمي تقول لي عندما تغضب مني لشقاوةٍ ما ارتكبتها:

- لا أبوك «يستحرق» فيك.

وأتذكر أن والدي وأعمامي كلهم تقريباً يحلقون عند هذا الحلاق «محمد أمين الباكستاني»، فنحن كلنا من جماعة هذا الحلاق الذين يواظبون الحلاقة عنده، وقد نقل لي «أبو زينب» الحاج محمود شاخور، وهو من جماعة الحلاق بشير الذي يقع بالقرب الذي يقع في مبنى الحاج تركي الباشا ”رحمه الله“، ومحمد أمين عندما جاء إلى سيهات سكن في بيت الشمر مقابل قصر الحاج علي السيهاتي ”رحمه الله“ ومحله كان هناك أيضاً، ثم بعد ذلك انتقل محله إلى عمارة الحاج حسن الدبوس ”رحمه الله“، ويعرف عن الحلاق محمد أمين بأنه كان رجلاً طويلاً وقد عُرف بأنه أطول رجل في مدينة سيهات، وهو من أصدقاء الحلاق بشير أيضاً.

وأنا كذلك تعطيني أمي مبلغ الحلاقة وأذهب للحلاق أمين مشياً أو بدراجتي الخاصة، وعندما أدخل إما أن أنتظر على أحد الكراسي الموجودة إذا كان الحلاق أمين مشغولاً مع زبون آخر، وكنت أنصت لكل المحادثات التي تحصل أثناء الانتظار، فكان بعض الزبائن يتحدثون مع بعضهم البعض في العديد من الموضوعات أو عن أخبار الديرة، وأخبار دوري حواري كرة القدم، أو عن زواج فلان أو عن عودة العائلة الفلانية من السفر، وهكذا، أو أستمع إلى قصص وحكايات الحلاق محمد أمين وهو يُدلي بها لمن يحلق له أو لكل من يجلس ينتظر دوره للحلاقة، وبعض الحيان أكون أنا أول من يجلس على كرسي الحلاقة مباشرة إذا كان المحل فارغاً من الزبائن، وعند ذلك يبدأ الحلاق أمين بالكلام، فتأخذني الحماسة بالاستماع إلى ذلك السرد التلقائي الجميل بتعدد موضوعاته والدهشة التي تتزيّن به مضامينه،، وربما هذا يعود إلى حس الفضول في حب القصّ والاستماع إليه لديّ منذ تلك المرحلة الابتدائية، فتارة يتحدث عن مواقفه مع بعض الزبائن في المحل، وتارة يتحدث عن قصة حدثت له في باكستان، وتارة يتحدث عن موقف حصل له وهو ذاهب إلى الدمام لشراء بعض لوازم الحلاقة، وتارة يتحدث عن قصة فيلم من الأفلام الباكستانية، وتارة يتحدث عن باكستان وأخبارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكن ليس بهذا التفصيل وإنما بطريقة السرد البسيط كأخبار يتحدث عنها عامة المجتمع الباكستاني - وقتئذٍ -، والاستماع إلى الحلاق أمين ليس مملاً لأننا بكل صراحة نحب أن ننشغل بهذه ”السوالف“ كما نطلق عليها في لهجتنا العاميّة، حتى ينقضي الوقت وينتهي من الحلاقة بحيث يجري الوقت بسرعة دون أن نشعر به، وهذه ظاهرة عجيبة، لاحظناها حتى في الرحلات عبر السيارة، فعندما يتحدث السائق مع الركاب ينقضي الوقت بسرعة، ونصل ونحن في حالة من العجب كيف انقضى انقضت المسافة في أقل وقت ممكن!، وكذلك الحلاق أمين الباكستاني إذا صمت عن الكلام سنشعر بطول الوقت، وسنسأم بسرعة من ذلك، حتى إننا في بعض الأحيان نحن من يبتكر بداية الحديث ونقدح زمام انطلاقتهِ بحكايةٍ أو قصةٍ أو موقف نسرده له حتى يبدأ هو بالكلام وينطلق ثم نصمت نحن ونكون قد حققنا ما نريده منه، وهو الكلام، وهذه الظاهرة كَتب عنها البعض وفسّرها تفسيراً اجتماعياً ونفسيّاً، ومن الذين تحدثوا عنها وليام شكسبير الذي قال:

- ”إن المرح والعمل يجعلان الساعات تبدو قصيرة“.

بينما يقول الكاتب الأميركي هنري فان ديك:

- ”الوقت بطيء جدا لمن ينتظر، سريعاً جدا لمن يخاف، طويل جدا لمن يحزن، قصير جدا لمن يبتهج، ولكنه بالنسبة لأولئك الذين يحبون الوقت هو الأبدية“.

«المصدر: محمد سناجلة -22 أغسطس 2022 م موقع الجزيرة»

الروائياتي:

- تذكرني بأدبيات محلات الحلاقة، وسيارات التاكسي، التي كتب فيها العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء قديماً وحديثاً، وهذه الأدبيات قد ظهرت لديهم إما على شكل مقالات وأعمدة يومية في الصحف التي يكتبون فيها، أو على شكل تأملات وخواطر، أو على شكل قصص قصيرة، وهي من قبيل التلاقي مع الغرباء والحديث معهم، والارتياح إليهم، كما يقول دويستويفسكي:

- ”يحدث أحياناً أن نلتقي بأشخاص غرباء تماماً، يثيرون اهتمامنا من النظرة الأولى، فجأة وبطريقة غريبة للغاية حتى قبل التفوّه بأي كلمة“.

ويتابع الروائياتي حديثه:

- فكيف إذا تحدث هؤلاء الغرباء لك كأنهم يعرفونك منذ سنوات طويلة، وهم يثرثرون ما لديهم من أخبار وحكايات ومواقف وقصص وذكريات لا لشيء إلا لأنهم يرتاحون في التحدث إليك، ويُفضفضون ما في صدورهم لك، كأنهم يريدون تفريغ هذه الشحنات من الطاقة المعلوماتية عن واقعهم وما ارتسم في أذهانهم من المشاهدات في حياتهم قبل أيام أو أسابيع أو أشهر أو سنوات أو ربما قبل سنين طويلة من عمرهم الماضي، وهم لا يقومون بذلك إلا لأنهم يشعرون بلذةٍ وهُم يتحدّثون، كما يشعرون بشيء من التواصل مع البشر الذين يخالطونهم أثناء عملهم، فلا يشعرون بعد ذلك بأي غربةٍ أو ابتعاد عن أهاليهم وعن أوطانهم، لأنهم وجدوا هنا البديل من الذين قبلوا الاقتراب منهم والعيش مع وجدانهم وتأملاتهم وخواطرهم عن الذات، وعن الحياة والواقع، والوجود بشكل عام.

المسك:

- هذا كلام صحيح، وأنا لمست في الحلاق أمين ارتياحه وسعادته وهو يتحدث معنا في أي موضوع من المواضيع، بل وترى الابتسامة مرتسمة على وجهه من جرّاء تفاعلنا معه ونحن نتجاذب معه أطراف الأحاديث، إلا أنه كان المتحدث الأكثر، على اعتبار أنه هو الحلاق، ونحن يجب أن نكون صامتين أكثر وقت ممكن حتى يتمكن من حلاقة رؤوسنا بثبات دون أن نحرك أفواهنا في إطلاق الكلمات والجمل والتفاعل بسيماء وقسمات وجوهنا.