آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

كنتُ أجلّد الكُتُبَ لِلملاَّيات

عقيل المسكين *

الارتباط بسيد الشهداء الإمام الحسين بأيّ نوعٍ من الارتباط الإيجابي له فوائد كبيرة وكثيرة أيضًا، وكلُّ مَن له علاقة جميلة بهذه الشخصية الفذّة؛ وهذا الرجل العملاق؛ وهذا البطل المنتصر؛ وهذا الشهيد الرمز؛ وهذا القلب الرؤوم على جميع من يكنّ له وُدًّا وحبَّا وولاءً، فإن هذه العلاقة لا تَذهب سُدًى بل لها مردودها المنعكس على الإنسان شاء ذلك أو لم يشأ، فإن هذه الفائدة تظهر على شخصيته ويتنعّم بها طوال حياته، وهذا ما رأيتُهُ بحقٍّ في علاقتي الفطرية مع هذا الإمام المعصوم «صلوات الله وسلامه عليه»، ولا أقول ذلك عن عقيدةٍ فحسب، بل أقوله عن يقينٍ؛ بل أؤكّده عن حقِّ اليقين أيضًا.

لقد كنتُ أيام الصّبا بالمرحلة الابتدائية بالبيت العود في حيّ الديرة أجلّد الكتب الممزقة والمهترئة التي كانت عند والدتي؛ وهي كتب القراءة الحسينية النسائية والتي تُسمّى بالمجاميع، وأغلبها من الشعر الدَّارج، أو الشعر الشعبي باللهجة القطيفية أو البحرينية أو العراقية والأهوازية، وبعض الكتب الأخرى مثل كتاب ”الطريحي“، إضافة إلى كُتب الردّاديات التي تُنشد بأطوار معينة في مجالس النساء في مناسبات التعزية الحسينية سواء في أيام وليالي عاشوراء من شهر محرم في كل عام هجري، أو في ليالي وأيام وفيات المعصومين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، حيث كانت أمي في البداية تعطيني كتبها ومجاميعها الحسينية لإصلاح تجليدها، فكنت أستخدم الورق الذي كان يوضع بين صفوف ”حليب أبو علم“ في الكرتون، حيث يعتبر من الورق المقوى فأقوم بتقطيعه بحجم الغلاف الأمامي للكتاب؛ ثم قطعة أخرى للغلاف الخلفي؛ ثم قطعة ثالثة لكعب الكتاب، وأقوم بوضع قطعة مستطيلة من القماش أعدّها بواسطة القلم والمسطرة ثم أقصُّها بالمقص على المقاس الذي يُثبّتْ ورقة الكعب مع ورقة الغلافين الأمامي والخلفي، وكنت أستخدم غراء الخشب؛ أو غراء الورق الذي أشتريه من مكتبة الحاج حبيب الخرداوي أو مكتبة باقر النصر، ثم أضغط على القماش ببعض قطع الخشب حتى أحصل على الكبس المناسب لقطعة القماش مع القطع الورقية الثلاث.

وفي اليوم التالي يكون ورق التغليف جاهزاً للتغليف الثاني وهو ورق أبيض أو ورق بني حسب اللون المطلوب، وهذا النوع من الورق هو الذي كنا قديماً نستعمله في تجليد كتبنا ودفاترنا المدرسية، حيث أقص ورقة مستطيلة بحجم الغلافين الأمامي والخلفي وفي المنتصف الكعب المثبت بالقماش، ثم أطوي هذه الورقة المستطيلة من الجوانب إلى الداخل من جميع الزوايا اليمنى واليسرى والسفلى والعليا، فيصبح التغليف من الخارج بلون واحد، ثم آخذ الكتاب نفسه أو المجموع وأضعه على الكعب من الداخل وآخذ قياس لقطعتي قماش للجانب الأيمن للغلاف الأيمن من الداخل، وقطعة أخرى للغلاف الخلفي من الداخل، وألصق قطعتي القماش بالغراء بحيث يتم رصّ الطرف السفلي الملامس للغلاف الأمامي الداخلي من الأسفل، والملامس للغلاف الخلفي من الأسفل، ويكون الرصّ بواسطة ورقةٍ مُقوَّاة، ثم أطوي الغلافين على الكتاب، وأضع ثقلاً من الخشب أو بين طوبتين صغيرتين، وفي اليوم التالي أرفع الثقل وهو الخشب أو الطوب الذي يرصّ الكتاب أو المجموع، ويكون الكتاب أو المجموع قد تثبت بواسطة القماش الماسك بين الغلافين من الداخل مع الطرفين السفليين للكتاب نفسه، ثم أقوم بتغطية الغلاف الداخلي الأيمن بقطعة من الورق بالغراء أيضاً، وكذلك تغطية الغلاف الداخلي الأيسر بقطعة من الورق بالغراء أيضاً، ويتم وضع الثقل من الأسفل والأعلى سواء من الخشب أو باستعمالِ طوبتين قويتين، وفي اليوم التالي يكون الكتاب أو المجموع جاهزاً للاستعمال حيث تم تجليده تجليداً قوياً بالورق السميك وبالقماش القوي.

لقد أعجبت أمي بطريقتي هذه حتى قمت بتجليد كلّ كتبها القديمة، وعندما رأت بعض الملاّيات والخطيبات الحسينيات كتبها وقد تجلّدت تجليداً مناسباً أصبحت الطلبات تأتيني من كلّ زميلاتها اللواتي تعرفهن ولديهن بعض المجاميع وكتب التعزية، وأتذكر أنني قمت بتجليد الكثير من الكتب والمجاميع في تلك السنوات، كما إنني ابتكرت طريقة أقوى من ذلك حيث استخدمت مضاعفة القماش، فبدلاً من القماشة الواحدة الداخلة بين الغلاف الأيمن والغلاف الأيسر والكعب قمت بوضع قماشتين، قماشة من الأمام وقماشة أخرى من الخلف، وأقوم بتثبيت القماشتين بالغراء وبالرصّ القويّ، كما أقوم بمضاعفة الورق بدلاً من صفّةٍ واحدة من الورق للغلافين من الخارج صرت أضع ورقة للغلافين من الداخل وورقة للغلافين من الخارج، هذا لتثبيت الغلافين مع الكعب فقط، أما الكتاب نفسه عندما أضعه على الكعب لتثبيته بقطعتي قماش، كنت قد ثبَّتُّ قطعة قماش في كعب الكتاب نفسه باللصق المرصوص أولاً ثم أقوم بلصق طرق القماشة في أسفل الغلاف الأول الأيمن، ثم أقوم بلصق القماشة في أسفل الغلاف الخلفي الأيسر ثم أضع ورقة مُقوّاة للحدّ بين الكعب الأيمن مع الغلاف الأيمن، وورقة أخرى مقواة للحدّ بين الكعب الأيسر مع الغلاف الخلفي ثم أرصّ الكتاب بالثقل من الأسفل والأعلى، وفي اليوم التالي يكون الكتاب جاهزاً وقوياً للاستعمال، وفي بعض الأحيان كنت أستخدم غراء الخشب وهو أقوى من غراء الورق نفسه، وكنت أحضر القليل من غراء الخشب من منجرتنا في علبة صغيرة بعد الاستئذان من والدي.

الروائياتي:

هل واصلت هذه الهواية المهنية الجميلة؟

المسك:

لا لم أواصل ذلك، وربما هذا يعود لانشغالي بالدراسة من جهة، وبعد مرور السنوات انشغالي أيضاً بأشياء أخرى كقراءة الكتب والقصص والمجلات حتى تركت عمل التجليد لأن والدتي لم تعد تحضر لي الكتب والمجاميع من صديقاتها من القارئات الحسينيات، أو ربما لأنني قمت بتجليد كتب أغلب من تعرفهنّ ثم اكتفين من تجليد هذه الكتب وهذه المجاميع، ولكنني أتذكر أنني كنتُ سعيداً جداً بقيامي بهذا العمل، وبالذات لأن هذه الكتب كلها كانت عن قضية الإمام الحسين وإحياء ذكره في المجالس النسائية عموماً.

الروائياتي:

هواية تجليد الكتب والتفنن في هذه الحرفة، بالاجتهادات الشخصية من حيث استخدام الكثير من أنواع الورق، والقماش، وأنواع الغراء، وهي هواية يمكن ممارستها في المنزل، وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ الإنساني عنها وقد تحولت لدى الكثير منهم من مجرد هواية إلى حرفة عملية يُتكسب منها المال، حتى أصبح هؤلاء الهواة ومن ثم الحرفيين يعملون في المكتبات وحوانيت الوراقين والنساخين قديما، وحديثاً، بل هناك من الأدباء في الحضارة الغربية، والحضارة العربية يعلمون في هذه المهنة، وتجليد الكتب هو حرفة قديمة تُعنى بحفظ الكتب وحمايتها من التلف، إضافة إلى تعزيز مظهرها الجمالي، وقد تطورت هذه الحرفة عبر الزمن، بدءًا من التقنيات البسيطة إلى تقنيات أكثر تعقيدًا وإبداعًا، ويمكن ممارسة تجليد الكتب في المنزل كهواية، حيث يعتمد على الأدوات البسيطة كالأوراق المُقواة، والجُلود، والخيوط، والغراء، مما يسمح للهواة بإضفاء لمسة شخصية على كتبهم المفضلة، ولتجليد الكتب الكثير من الفوائد منها: حماية الكتب حيث يوفر تجليد الكتب حماية ممتازة للأوراق الداخلية من العوامل البيئية مثل الغبار والرطوبة، ومن الفوائد إطالة عمر الكتب حيث يساهم التجليد في الحفاظ على الكتب لفترات أطول، وكذلك إضفاء الطابع الشخصي، حيث يسمح للأفراد بتصميم وتجليد كتبهم بطريقة تعبر عن ذوقهم الشخصي من حيث نوع الورق الذي يتم اختياره للتجليد وكذلك لونه، إضافة إلى تعزيز القيم الجمالية لهذه الكتب حيث يجمع ذلك بين الفن والحرفة في تصميم وتجليد الكتب، مما يحول الكتاب إلى عمل فني.

وإذا رجعنا للتاريخ الإنساني سنجد هناك شخصيات اهتموا بتجليد الكتب ومنهم: ”ابن مقلة“ «ت. 328 ه/ 940 م» وهو أحد أعظم خطاطي العالم الإسلامي وأحد أوائل الخطاطين الذين اهتموا بتجليد الكتب الإسلامية بطرق فنية، ومنهم ”ابن النديم“ «ت. 385 ه/995 م» صاحب كتاب ”الفهرست“، والذي كان يعمل كاتبًا ووراقًا، وكان له اهتمام بتجليد الكتب ونشرها، ومنهم ”جاك كول“ وهو من أوائل مجلدي الكتب المحترفين في أوروبا خلال عصر النهضة، وخصوصًا في فرنسا، حيث أسهم في تطوير تجليد الكتب بأساليب فنية جديدة.

أما من الأدباء والعلماء الذين مارسوا تجليد الكتب فمنهم ”وليم موريس“ «1834-1896» وهو من أشهر الأدباء والمصممين في الحضارة الغربية، أسس حركة ”الفنون والحرف“ في إنجلترا وكان له اهتمام كبير بتجليد الكتب بتصاميم فنية فريدة. وكذلك ”جون رسكين“ «1819-1900» وكان ناقدًا فنيًا ومصلحًا اجتماعيًا إنجليزيًا، اهتم بتصميم وتجليد الكتب كجزء من حركته لتعزيز الفنون والحرف التقليدية، ومنهم ”أبو القاسم السراج“ من النساخين المعروفين في الحضارة الإسلامية، وكان يعمل في حوانيت الوراقين ويجلد الكتب بخبرة ودقة عالية.

ولا تزال في الكثير من الدول الحديثة مهنة تجليد الكتب موجودة، لا سيما للمكتبات الكبرى والعالمية التي تفتخر باهتمامها بالكتب القديمة والتراثية حتى تقوم بتجليدها تجليداً فاخراً للحفاظ عليها، ولإعطائها سمة جمالية وهي على رفوفها المخصصة لها في هذه المكتبات، وبالتالي فإن لأهمية التجليد في المكتبات وحوانيت الوراقين قديماً وحديثاً الكثير من الأساليب، القديمة، والمعاصرة، وفي في العصور الإسلامية، كانت المكتبات وحوانيت الوراقين والنساخين أماكن رئيسية لتداول الكتب وتجليدها، حيث كانت الحرفية في تجليد الكتب تعكس أهمية الكتاب وقيمته الثقافية والعلمية، وكان الوراقون والنساخون يعملون على تجليد المخطوطات بعد نسخها، مما يضمن الحفاظ عليها للأجيال القادمة، وهذه المهنة الحرفية تمتد جذورها في عمق التاريخ، ولها دور كبير في الحفاظ على التراث الثقافي والعلمي، القديم والحديث، سواء كانت تمارس كهواية في المنزل أو كمهنة في المكتبات، فهي تظل جزءًا مهمًا من الثقافة البشرية حتى يومنا هذا.