تمساح دوستويفسكي
بدأت روسيا القيصرية عملية التمدُّن والتحديث قبل العام 1800 م، محاولة اللحاق بأوروبا وخصوصاً فرنسا، التي كانت تشهد نهوضاً حضاريًا، ما جعل ثقافتها ولغتها تنتشر بين الأدباء، لدرجة أن تأثيراتها وصلت إلى مرافق الدولة المختلفة، ومن ضمنها الجانب الاقتصادي، حيث ظهرت دعوات لفتح البلد أمام الاستثمار الأجنبي لإنقاذه من الانهيار، وتكوين طبقة ”برجوازية“؛ تساهم برفد الناتج المحلي، وهو ما استفاد منه دوستويفسكي، فجعله موضوع قصة ”التمساح (Krocodil)“ الصادرة عام 1865 م.
البداية من ”الممر“، وهو مكان يتجه إليه الناس بغرض ”التسلية“، إذ ذهب الموظف الحكومي ”إيفان“ وزوجته ”إيلينا“ وصديقه ”سيميون“؛ لمشاهدة معرض حيوانات يقيمه زائر ألماني، يعتبر ”الوحيد الذي يعرض على الناس تمساحاً في روسيا“، وهناك إيفان ”أخذ يدغدغ منخري التمساح بطرف قفازه بغية أن يحمله على أن يزفر زفيراً صاخباً“، فما كان منه إلا أن أمسكه ”بفكَّيه من وسط جسمه، ورفعه إلى فوق، فأخذ المسكين يحرك ساقيه في الفضاء حركات أفقية. وسرعان ما اختفى“؛ ليتحول المشهد الدرامي إلى مأساوي، وينتقل الحدث من التسلية إلى الجدية، مناقشاً في الأثناء قضية الاستثمار الاقتصادي الأجنبي.
صرخت إيلينا ”اقتلوه! اقتلوه!“ متجهة إلى الألماني الذي ”راح يصيح رافعاً بصره إلى السماء: - آه... آه... تمساحي! عزيزي كارل! أمي! أمي! أمي!“، فهرعت إليه وبعد سماعها بما حدث رفعت صوتها مُعوِلة: ”عزيزنا كارل! عزيزنا كارل! فيضيف صاحب التمساح: - ها نحن أصبحنا أيتاماً بغير خبز!“، وهنا توجه للزوجة: ”لسوف تدفعين ثمن كارل إذا هو انفجر! لقد كان ابني، كان ابني الوحيد“، ثم أكملت الأم: ”لن ندعك تنصرفين قبل أن تدفعي لنا تعويضاً، لأن عزيزنا كارل سوف ينفجر!“، فأمسك سيميون بيدها: ”قتل التمساح لا جدوى منه، لأن عزيزنا إيفان ماتفئتش لا بد أن يكون الآن محلِّقاً في العالم الآخر“، لكنهم دُهشوا حينما سمعوه يتحدث: ”الأفضل أن تستعينوا بالشرطة، لأن تدخل القوة الحكومية يستطيع وحده إقناع هذا الألماني“.
”نعم، أنا حي، وعلى أحسن حال من الصحة والعافية؛ فبفضل رعاية الله وحمايته، بلعني التمساح دون أن يلحق بي أي خراب.“ هكذا أجاب إيفان حين سألته إيلينا عن حاله، فصاح الألماني: ”لن أسمح لأحد بأن يلمس تمساحي. سوف يتكاثر الجمهور هنا بعد الآن تكاثراً عظيماً، حتى ليسحق الناس بعضهم بعضاً من شدة الزحام“، أما الأم فأخذت تحمد الله وتشكره، فتدخل إيفان: ”هما على حق، فإنما ينبغي أن ننظر إلى الأمور نظرة اقتصادية قبل كل شيء“، فرد عليه سيميون: ”سأذهب إلى رؤسائنا فوراً لتقديم شكوى، ذلك أنني أرى أننا لن نستطيع أن نحل هذه القضية وحدنا“، فقال له: ”اذهب اليوم إلى تيموتي سيميوفتش“، واقصص عليه ”الحادث بكل تفاصيله... فقد يسدي إلينا عندئذ بنصيحة حسنة. وبانتظار ذلك، أعد إيلينا ماتفئفنا إلى البيت“.
”أنصحكم بأن تخنقوا هذه القضية، أن تكتموها... أن لا تتصرفوا في الأمر إلا بكثير من الحيطة... ينبغي له أن لا يتحرك... ينبغي له أن ينتظر“، فرد عليه سيميون: ”ينتظر؟ ولكن كيف يا تيموتي سيميوفيتش؟ ماذا لو اختنق في جوف التمساح؟“، قال: ”يجب أن نتخذ الإجراءات اللازمة للمحافظة على صحته“، وصحة التمساح فهو ”ملك لصاحبه“، ثم انتقل الحديث إلى الجانب الاقتصادي الذي ”يعلو على كل شيء“، مستشهداً بكلام ”أجناتي بروكوفتش“، وهو ”رأسمالي كبير يتعاطى أعمالاً ضخمة“: ”نحن في حاجة إلى صناعة... ومن أجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نخلق طبقة برجوازية. ولما كنا لا نملك رؤوس أموال، فيجب الإتيان برؤوس الأموال من الخارج. فعلينا إذاً، قبل كل شيء، أن نتيح للشركات الأجنبية أن تشتري أراضينا أجزاء أجزاء، كما يحدث هذا في كل مكان في البلاد الأجنبية... وإذا لم نعمد إلى البيع ففي إمكاننا الاكتفاء بالتأجير... ومتى أصبحت أرضنا كلها في أيدي شركات أجنبية، سهل تحديد نصيب الفلاح، وبذلك يكون على الفلاح أن يعمل ليجني رزقه، ويكون من الممكن طرده... فإذا شعر بهذا الخطر، أصبح أكثر احتراما وأكثر طاعة، وأنتج من العمل ثلاثة أضعاف ما ينتجه منه الآن“، وهكذا ”فإن المال سيعود إلينا، وستجيء البورجوازية برؤوس أموالها“.
قاطعه سيمون: ”فماذا نحن فاعلون من أجل إيفان ماتفئتش؟“، ليرد: ”كل ما قلته يرتبط به ويدور عليه. إننا نبذل جميع جهودنا لإحضار رؤوس الأموال الأجنبية إلى بلادنا، فما كادت تتضاعف ثروة مالك التمساح... حتى أصبحنا نطمع في أن نفتح بطن هذا التمساح... في رأيي... أن على إيفان ماتفئتش أن يغتبط وأن يعتز بأنه استطاع أن يضاعف قيمة تمساح أجنبي ضعفين... بل ثلاثة أضعاف! وإذا نجح صاحب هذا التمساح، فسيأتي رجل ثانٍ بتمساح آخر، ثم يجيء ثالث بتمساحين أو ثلاثة، فتتجمع حولهم رؤوس الأموال، فإذا بنا نرى بداية نشوء طبقة بورجوازية“، بعدها سأله: ”بأي حال يمكن دفع التعويض لمالك التمساح؟“؛ ليجيب: ”من مرتبات إيفان“، ثم استدرك: لكنها ”لا تكفي... في أول الأمر كان صاحب التمساح يخشى على حيوانه أن ينفجر، حتى إذا تأكد من أن كل شيء يجري على ما يرام، أخذ يتجبر ويتغطرس، وراح يتلذذ بالمطالبة بمضاعفة الثمن“.
”في وسعه أن يضاعفه ثلاثة أضعاف أو أربعة! إن الناس سيتدفقون أفواجاً كبيرة، وأصحاب التماسيح هؤلاء أناس بارعون. ثم إننا في موسم الكرنفال، والناس ينشدون التسلية، فلهذا السبب نفسه يجب على إيفان ماتفئتش أن يظل أمره مجهولا وأن لا يتعجل“، وحين انتهى تيموتي قال سيميون: ”لن يفوتني أن أسأل صاحب التمساح عن الثمن الذي يطلبه، ثم أجيء إليك فوراً لأطلعك“، ثم استأذنه وعاد إلى ”السجين“، حيث حكى له ”أدق التفاصيل“ عما دار بينهما، فما كان منه إلا أن طلب منه الجلوس: ”لقد وفد اليوم جمهور كبير جدًّا. ورأى صاحب التمساح أن من الضروري إغلاق المحل في الساعة الثامنة... وذلك ليستطيع أن يحصي الخزنة، وأن يتخذ الإجراءات اللازمة ليوم الغد. علينا أن نفترض أن سادة الرجال، وسيدات المجتمع الراقي، والسفراء، والمحامين، وغيرهم، سيجيئون غداً. وليس هذا كل شيء. إن سكان مختلف المقاطعات والأقاليم من إمبراطوريتنا الواسعة الرائعة أخذوا يزحفون نحو العاصمة. وسأصبح محل أنظار الجميع رغم اختبائي. سيكون لي دور كبير من الطراز الأول... سوف أكون أشبه بمنبر عالٍ تهبط منه على الإنسانية أقوال عظيمة“.
بعدما شاهد اعتزازه الكبير بنفسه سأله: ”أفلن تشعر بالضجر؟“، أجاب: ”لن أشعر بضجر. إنني، وقد أصبح في وقتي متسع، أنصرف الآن انصرافاً كاملاً إلى الأفكار العظيمة الكبرى، وأهتم بمصير الإنسانية جملة... لم أستطع قبل الآن أن أنصرف إلى هذه المسائل وأن أعكف عليها، وذلك لقلة أوقات الفراغ... أما الآن فسوف أحدث ثورة في كل شيء“، ثم أخذ يتحدث عن زوجته: ”إن لي آمالاً خاصة بشأنها. إذا أصبحت أنا“ هنا ”شهيراً، فإنني أريد أن تصبح هنالك شهيرة أيضا. إن العلماء، والشعراء، والفلاسفة، وعلماء المناجم الذين يمرون بمدينتنا، ورجال الدولة، الذين سيجيئون إليَّ ليتحدثوا معي في الصباح، سوف يترددون إلى صالونها في المساء. يجب أن تبدأ باستقبال هؤلاء الناس منذ الأسبوع القادم... لطالما انتظرت فرصة أن أجعل الناس يتحدثون عني، وأن يذيع صيتي وتطير شهرتي... فما هي إلا لقمة واحدة يبتلعها التمساح، فإذا بالأمور تعود إلى نصابها. سوف يسجلون كل كلمة من كلماتي... وسوف تُطبع أقوالي وتُنشر... سوف يدركون أخيراً كفاءات هذا الرجل الذي تركوا للتمساح أن يبتلعه!“.
تسير نهاية القصة في اتجاه التهكم والسخرية، وذلك من خلال المقارنة مع أوروبا، التي يُنظر إليها باعتبارها صاحبة نهوض حضاري، وعلى الروس مشابهتها، فكل ما يأتي منها سيكون جيداً ومقبولاً، لهذا يتساءل ببراءة، طارحاً مسألة ”تلويث أحذية المارة بالطين“ من قبل المسؤولين عن إزاحته: ”لماذا لا يكوِّمون الثلج أكداساً صغيرة، كما يفعل الناس في أوروبا؟“، لينطلق بعدها ويطرح مسألة الإشفاق على التمساح لا إيفان؛ فكيف ”يشفقون على التمساح بدلاً من أن يرثوا لحال إيفان ماتفئتش!“، ليأتي الجواب: ”أليس هذا على الطريقة الأوروبية؟ إن الناس في أوروبا يشفقون على التماسيح أيضاً! هئ هئ هئ“، وهنا تكون القصة باحت بأسرارها، وكما افتتحت في الممر تنتهي بذهاب سيميون إليه؛ كي يستطلع ”ما يجري فيه ولو من بعيد“، إذ يتنبأ ”أن يكون الزحام شديداً“، حتى ”ليكاد الناس يدوس بعضهم بعضاً“.
قمة السخرية والتهكم يستعملها دويستويفسكي؛ أولاً من خلال التناقض بين الشخصيات، فالزوجة التي كانت على وشك فقد زوجها؛ خرجت للرقص مع آخر، بل وفكرت في ”الطلاق“ منه، طالما لا يستطيع الوفاء بمتطلبات الزوجية؛ بسبب مكوثه في جوف التمساح.
ثانياً عبر الاستثمار غير المجدي؛ حيث إحضار التماسيح، وإقامة العروض لمشاهدتهم وكسب المال من ورائهم؛ لا يقود إلى إنشاء طبقة برجوازية حقيقية ترفد الاقتصاد وتساعد البلد؛ لأنها لا تقدِّم شيئاً ذا قيمة، ولا تساهم في أي نوع من أنواع النمو، إذ تكتفي بخلق أجواء من الرفاهية، لطبقة اجتماعية، تتمثل رغبتها الوحيدة في التسلية.
ثالثاً استلهام الأفكار من الخارج ليس ضروريًّا أن يكون هو الحل، فما يوجد في أوروبا من انتشار الأنهار وإمكانية جلب التماسيح لعرضها، ربما يتوافق مع الموجود في روسيا، لكنه لا يقدِّم الحلول الاقتصادية المناسبة، التي ينبغي أن تكون نابعة من الداخل.
رابعاً إدراكه لتغيُّرات الإنسان الباحث عن الشهرة وحب البروز، وهو ما انتشر في المجتمعات المعاصرة؛ نتيجة التواصل الفعَّال عبر برامج السوشيال ميديا، حيث ظهرت شخصيات نالت شهرة واسعة لأسباب مختلفة، رغم أنها لم تقدِّم ما يستحق، ورغم ذلك ترغب أن تكون مؤثرة في اتخاذ القرارات وتوجيه الناس.
قصة اجتماعية واقعية، تتحدث عن زمن روسيا القيصرية؛ حيث الفقر والبطالة والعبودية، وانتشار الأوبئة والأمراض، وعدم قدرة الناس على الحياة بشكل لائق، إضافة إلى الخوف من النظام؛ دفع الكاتب إلى اعتماد الرمزية؛ لوصف التفاوت بين الموسرين والمعوزين، والتهكم على إصلاحات اقتصادية غير مجدية، وكذلك على أشخاص مؤثرين لمجرد أنهم مشهورون.