آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 12:28 م

مأذون وقصة

أب ينافس ابنه في الزواج

الشيخ محمد الصفار

يمازحني دائمًا أحد الشباب العزاب، فالصداقة التي تربطني بوالده صداقة قديمة، كان دائمًا يهامسني باسمًا: كلِّم الوالد ليزوجني، فالتفت إلى أبيه وأقول له: ”ابنك جاهز للزواج، فلا تضغطه ويسّر أمره، اختر له بنتًا تليق به وأخرجه من حياة العزوبة“.

كان والده يبتسم ويقول: ”لم يحن الوقت بعد، وولدي هذا عجيب أمره فهو يختلف عن إخوانه كثيرًا، فهم كانوا أكثر حياء منه، أما هو فمن جيل بينه وبين الحياء مسيرة عام كامل“، وينتهي الكلام بيننا بابتسامة خفيفة، ثم ينصرف كل لأشغاله وأعماله.

بعد نحو خمسة أشهر من آخر لقاء كان بيننا، صادفته في مناسبة فرح، فجاءني مسلمًا ومعه ابنه، وقبل أن يتكلم ابنه قال لي: ”قرب أمر الزواج، فانتظر تلفوني قريبًا جدًا لنتفق على وقت العقد“، فقلت له: ”بلّغك الله في الجميع، وجعل حياتكم فرحًا وسرورًا“.

لم يمض شهر واحد حتى وصلني تلفونه، وتم تحديد الموعد، ومكان العقد، وتلاقينا على الموعد في منزل رائع الجمال، وعند أناس من أطيب وأكرم الناس.

هنا بدأ عملي، التفت إلى الولد وطلبت منه بطاقته الشخصية، ثم التفت إلى أحد إخوان الزوجة وطلبت بطاقته ليكون شاهدًا، وقبل أن أطلب بطاقة الشاهد الثاني، التفت لي أبو الولد وقال وهو يضحك: ”وأنا يا شيخ ألا تريد بطاقتي؟“ قلت له: ”لا أريد منك شيئًا، أنت فقط افرح واستمتع بهذا العقد الذي كنا ننتظره“، ثم طلبت بطاقة شاهد آخر وأخذتها إلى جنب البطاقات، فأعاد الرجل سؤاله لي: وأنا يا شيخ ألا تريد بطاقتي؟ فأعدت عليه جوابي السابق، لا أريد منك شيئا.

ينقصني الآن فقط دفتر العائلة لوالد البنت، كي أنقل المعلومات المرتبطة بالولي وبالبنت في دفتر ضبط العقود، كما طلبت نتيجة تحليل الدم، فلما اكتملت الوثائق عندي، أعاد الرجل سؤاله علي: وأنا يا شيخ ألا تريد بطاقتي، قلت له ممازحًا: ”لا أريد رؤيتها حتى لو سألتني هذا السؤال ألف مرة“، ثم أدرت وجهي بسرعة إلى ولده وأنا أسأله أتوكلني في قبول الزواج عنك؟ فقال لي: ”لا“.

قلت له: ”إذا كان جوابك لا، فهل ستقبل أنت لنفسك؟“ قال: ”لا“، ثم انفجر ضاحكًا وهو يقول الذي سيعقد هذه الليلة هو أبي ولست أنا، نظرت إلى نتيجة تحليل الدم فوجدت اسم أبيه، وحين نظرت إلى أبيه بادرني قائلًا: ”لأكثر من مرة وأنا أقول لك: وأنا يا شيخ ألا تريد بطاقتي؟ ولكنك لا تعير وزنًا لكلامي“، ثم أخذ هو وأولاده الثلاثة يضحكون، وعمت البسمة المكان، وانتشى المجلس بالفرح والصلوات.

هنا علق ابنه الأعزب الذي تصورت أنها ليلة عقده بأن والدته توفيت منذ سنة، وأصبح الوالد وحيدًا، فقررنا نحن الأخوة تزويج الوالد، وضغطنا عليه إلى أن قبل منا وتوافق معنا، سألته: وأخواتكم؟ قال: ”قبلن ولكن بتكلف وبدون سعادة“.

مستوحيات من القصة:

1/ مبادرة الأبناء في تزويج والدهم بعد فقد الأم تعتبر عملًا بارًا، فالوحدة التي يعيشها الأب لا يعلم صعوبتها عليه وهو في هذا العمر إلا الله، فالبنات والأولاد متزوجون أو سيتزوجون، وسيبقى أبوهم بلا مؤنس، ليس أمامه إلا جدران البيت.

2/ الأنس وليس شيئا آخر، ربما هو ما يكون مطلوبًا للأب في عمره المتقدم، وبعض البنات لا يلتفتن إلى هذا النوع من الحاجة عند أبيهم، بل يعشن هاجسا آخر، مفاده لا نريد امرأة أخرى تحلّ مكان أمنا، وهذه عاطفة لنقل أنها حسنة تجاه أمهم وهي ميتة، لكن ماذا عن أبيهم الحي؟ ماذا عن استيحاشه ووحدته؟

3/ أن يدفع الأولاد مهر أبيهم للزواج بعد وفاة أمهم هذا ينعش روح الأب، ويهبه حيوية يشعر فيها بقيمة تربيته لهم وتعبه عليهم، ويشعره أن حياته بخير ما دام أولاده يعاملونه بهذه الطريقة.

4/ لا يختلف أمر الأب عن الأم، فربما يتوفى الأب وتبقى الأم وهي في عمر متقدم لكنه يحتمل الزواج، وهنا على أولادها وبناتها أن يساعدنها ويفسحن لها المجال إن كانت راغبة في الزواج وتقدم لها من يؤنسها لتقضي معه بقية حياتها.