آخر تحديث: 15 / 3 / 2025م - 5:22 م

مكتبةُ الكُتُبِ التي ودَّعتُها بدُموعي

عقيل المسكين *

في المرحلة المتوسطة - من العام «1400 هـ، حتى 1403 هـ» -، وكنا نسكن في بيتنا الجديد بحي الفردوس بجانب مخابز العيد الذي يملكه التاجر المعروف الحاج علي العيد، من أهالي مدينة سيهات، وله فروع كثيرة في كل المنطقة - تقريباً -، وأتذكر في إحدى المرات كنت في المنجرة مع والدي وكان قد انتهى منذُ عدة أسابيع من مكتبةٍ متوسطة الحجم تتكون من ثلاثة أو أربعة رفوف وتوضع على جانبٍ في الصالون أو في المجلس أو في الغرفة، ولم يأتِ صاحبها لاستلامها ومضت عدة أشهر على ذلك، حتى يئسَ والدي من مجيئه لاستلام مكتبته وتسليم المستحق عليه نظير قيمة هذه المكتبة، فقرّرت أن آخذها ليأسنا من مجيء صاحبها الذي طلب تنفيذها، وأخبرت أبي بذلك وبالفعل أخذت هذه المكتبة ونقلتها لغرفتي ببيتنا الجديد بحي الفردوس، وقمت بترتيب كتبي ودفاتري وأشيائي المدرسية في رفوف هذه المكتبة وكنت فرحاً بها أيّما فرح، لأنني لأول مرة في حياتي أمتلك رفوف مكتبة كتب بتصميم جميل في غرفتي الخاصة، وقد كان هذا الترتيب مدعاة لتنظيم أفكاري وتأملاتي الذاتية، ومرّت عدة أسابيع والأمور كلها على ما يرام، حتى حدث ما لم يكن بالحسبان، وما لم يكن على البال أو الخاطر كما يقولون.

علمت من أمي أن والدي يريد استعادة المكتبة التي أخذتها من المنجرة بإذنه لأن صاحبها الذي طلبها قد حضر وسأل عنها، فحزنت كثيراً من هذا الخبر الصادم الذي وقع على سمعي كوقوع شيء ثقيل بشكل مفاجئ على كاهلي حتى آلمني وأجهدني من شدّة وقوعِه، وبالفعل دخلت غرفتي وأخليت المكتبة من كلّ كتبي ودفاتري وأقلامي وأشيائي الأخرى من على رفوفها، ثم جاءت أمي وقامت بتلميع رفوفها وجوانبها، حتى جاء والدي وحمل المكتبة ليضعها في السيارة النقل الخاصة بالمنجرة، وأخذها معه، وكان وداعاً مُرًّا لهذه المكتبة الجميلة التي تعلّق قلبي بها لأنها ساعدتني في تنظيم كتبي ودفاتري، حتى إنني ودعتها بدموعي.

الشيء المحزن أن والدي لم يعدني بأن يعمل لي مكتبة أخرى مشابهة أو أي مكتبة أخرى مناسبة للمكان في غرفتي الخاصة، إنه أخذ المكتبة ليسلمها لصاحبها ويستلم منه قيمتها - فحسب - أما مشاعري على اعتبار أنني ابنه الأكبر أو على اعتبار أنه من المفترض أن يشجعني على تلقي العلم والمذاكرة والقراءة والمزيد من الاطلاع في الكتب والمصادر والمراجع فهذا ليس في حسبانه مطلقًا، إنه فقط يقول لي: عليك أن تذاكر في كتب المدرسة وأن تواظب عليها وأن تحل الوجبات الملقاة على عاتقك حتى تنجح.

مرّت الليالي والأيام، ودفاتري وكتبي ومجلاتي وأدواتي المدرسية موضوعة في المكتبة القديمة التي جئنا بها من بيت الديرة، وهي من الأساس عبارة عن دولابٍ ليس للكتب وإنما للصحون والأواني، وقد عدت إلى القناعة السابقة التي كانت عندي، ولم أنطق ببنت شفة حول هذا الموضوع لا مع والدتي ولا مع والدي، إلا أن هناك شيئاً ما في نفسي تجاه هذا الموقف المحزن والذي أسميته بـ ”عام المكتبة المسلوبة“، لأنها سُلبت منِي سلبًا بعد الموافقة الأبوية السامية على منحها لي تشجيعاً لقدراتي العلمية والمعرفية والأدبية، إلا أنني اكتشفت فيما بعد إنما أعطيت لي من باب الاضطرار ليس إلّا لأن صاحبها لم يأتِ لاستلامها ولم يدفع قيمتها، وعندما عاد تنافى هذا الاضطرار ويجب أن تعود المكتبة لصاحبها الذي طلبها؛ ﴿وكفى الله المؤمنين القتال .

وحتى لا أنسى فإن تلك الحادثة وقعت بين 1400 هـ إلى 1403 هـ، والعجيب أن والدي بعد عام 1424 هـ «أي بعد عقدين من الزمان أو أكثر قليلاً» وبعد أن باع منجرته عام 1411 هـ، صنع لي مكتبة كاملة من البلايوود الأبيض، في منزلي الأول بحي الديرة، والذي خصصته قبل سنوات لمقر نادي سيهات الأدبي ”عرش البيان“، والذي ترسّم تحت منصة هاوي منذ 02/ 2024 م ولله الحمد، ولا زالت هذه المكتبة موجودة إلى الآن، وكلما شاهدتها وتنقلت من رف إلى آخر لأخذ كتيب أو كتاب أو مجلد تذكرت حادثة المكتبة المسلوبة، وترحمت على والدي، وعرفت أن والدي لا يزال يحمل ذلك الهم الأبوي في قلبه حتى أدخل على قلبي الفرح والسرور بمكتبة كاملة ليست لي وحدي بل لمشروع المنتدى أيضًا، فهو يُدرك تطلعاتي وأهدافي أيضًا، وعرفت بذلك كم للأب من رحمة كبرى بأولاده، وشعرت بالذنب لأن قلبي كان يعاتبه فيما مضى بخصوص المكتبة القديمة، وقد أضفت لغرفة المكتبة التي صنعها والدي غرفة أخرى فأصبح الطابق الأول كلّه مكتبة، بينما الدور الأرضي عبارة عن مجلس كبير نقيم فيه الجلسات الأسبوعية الاعتيادية، إضافة إلى الأمسيات من محاضرات وندوات ولقاءات النادي، وللوالد رحمه الله الفضل الكبير في تشجيعي على مواصلة نشاطات النادي، وما هذه المكتبة إلا من لمسات أنامل يديه كنجار محترف - رحمه الله -.